فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

قوله: {قل أعوذ برب الفلق}
قال ابن عباس وعائشة: «كان غلام من اليهود يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فدبت إليه اليهود، فلم يزالوا به حتى أخذ من مشاطة رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدة من أسنان مشطه، فأعطاها اليهود، فسحروه فيها، وتولى ذلك لبيد بن الأعصم رجل من اليهود فنزلت السورتان فيه».
عن عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر حتى كان يخيل إليه أن يصنع الشيء ولم يصنعه» وفي رواية: «أنه يخيل إليه فعل الشيء، وما فعله حتى إذا كان يوم، وهو عندي دعا الله، ودعاه ثم قال أشعرت يا عائشة أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه قلت: وما ذاك يا رسول الله قد جاءني رجلان، فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، ثم قال أحدهما لصاحبه ما وجع الرجل قال مطبوب، قال ومن طبه قال لبيد بن الأعصم اليهودي من بني زريق قال: فيما ذا قال في مشط ومشاطة، وجف طلعة ذكر قال فأين هو قال في بئر ذروان، ومن الرواة من قال في بئر بني زريق فذهب النبي صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه إلى البئر فنظر إليها وعليها نخل ثم رجع إلى عائشة فقال والله لكأن ماءها نقاعة الحناء، ولكأن نخلها رؤوس الشياطين قلت يا رسول الله فأخرجه. قال أما أنا فقد عافاني الله وشفاني، وخفت أن أثيرعلى الناس منه شرًا».
وفي رواية للبخاري «أنه كان يرى أنه يأتي النساء، ولا يأتيهن قال سفيان وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذلك» عن زيد بن أرقم قال: «سحر رجل من اليهود النبي صلى الله عليه وسلم فاشتكى ذلك أيامًا فأتاه جبريل فقال إن رجلًا من اليهود سحرك، وعقد لك عقدًا في بئر كذا فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًا فاستخرجها، فجاء بها فحلها فجعل كلما حل عقدة وجد لذلك خفة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال، فما ذكر ذلك لليهودي، ولا رآه في وجهه قط» أخرجه النسائي وروي «أنه كان تحت صخرة في البئر فرفعوا الصخرة وأخرجوا جف الطلعة، فإذا فيه مشاطة من رأسه صلى الله عليه وسلم وأسنان من مشطه»، وقيل كان في وتر عقد عليه إحدى عشرة عقدة وقيل كان مغروزًا بالإبر فأنزل الله هاتين السورتين، وهما إحدى عشرة آية سورة الفلق خمس آيات، وسورة الناس ست آيات، فكان كلما قرأ آية انحلت عقدة حتى انحلت العقد كلها، فقام النبي صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال وروي «أنه لبث ستة أشهر، واشتد عليه ذلك ثلاث ليال فنزلت المعوذتان» عن أبي سعيد الخدري أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا محمد اشتكيت قال نعم قال بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك بسم الله أرقيك».
فصل:
وقبل الشروع في التفسير نذكر معنى الحديث، وما قيل فيه، وما قيل في السحر، وما قيل في الرقى قولها في الحديث إن النبي صلى الله عليه وسلم سحر حتى كان يخيل إليه أنه يصنع الشيء، ولم يصنعه.
قال الإمام المازري: مذهب أهل السّنة، وجمهور علماء الأمة على إثبات السحر، وأن له حقيقة كحقيقة غيره من الأشياء الثّابتة خلافًا لمن أنكر ذلك، ونفى حقيقته، وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة لا حقائق لها، وقد ذكره الله في كتابه، وذكر أنه مما يتعلم، وذكر ما فيه إشارة إلى أنه مما يكفر به، وأنه يفرق بين المرء، وزوجه وهذا كله لا يمكن أن يكون مما لا حقيقة له وهذا الحديث الصحيح مصرح بإثباته، ولا يستنكر في العقل أن الله تعالى يخرق العادة عند النطق بكلام ملفق أو تركيب أجسام أو المزج بين قوي لا يعرفها إلا الساحر، وأنه لا فاعل إلا الله تعالى، وما يقع من ذلك فهو عادة أجراها الله تعالى على يد من يشاء من عباده.
فإن قلت المستعاذ منه هل هو بقضاء الله، وقدره فذلك قدح في القدرة.
قلت كل ما وقع في الوجود هو بقضاء الله وقدره، والاستشفاء بالتّعوذ، والرّقى من قضاء الله، وقدره يدل على صحة ذلك.
ما روى التّرمذي عن ابن أبي خزامة عن أبيه قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله أرأيت رقى نسترقي بها، ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئًا، قال: هي من قدر الله تعالى» قال التّرمذي: هذا حديث حسن وعن عمر نفر من قدر الله إلى قدر الله تعالى.
فصل:
وقد أنكر بعض المبتدعة حديث عائشة المتفق عليه، وزعم أنه يحط منصب النّبوة ويشكك فيها وأن تجويزه يمنع الثّقة بالشّرع.
ورد على هذا المبتدع بأن الذي ادعاه باطل لأن الدّلائل القطعية، والنقلية قد قامت على صدقه صلى الله عليه وسلم، وعصمته فيما يتعلق بالتبليغ، والمعجزة شاهدة بذلك، وتجويز ما قام الدليل بخلافه باطل.
وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا، وهو ما يعرض للبشر فغير بعيد أن يخيل إليه من أمور الدنيا ما لا حقيقة له.
وقد قيل إنه كان يخيل إليه أنه وطئ زوجاته، وليس واطئ، وهذا مثل ما يتخيله الإنسان في المنام.
فلا يبعد أن يتخيله في اليقظة، ولا حقيقة له، وقيل إنه يخيل إليه أنه فعله وما فعله، ولكن لا يعتقد ما تخيله فتكون اعتقاداته على السّداد قال القاضي: وقد جاءت في بعض روايات هذا الحديث مبينة أن السحر إنما سلط على بدنه وظواهر جوارحه لا على قلبه وعقله واعتقاده وليس في ذلك ما يوجب لبسًا على الرسالة ولا طعنًا لأهل الزّيغ والضّلالة، وقوله ما وجع الرجل قال مطبوب أي مسحور قوله، وجف طلعة ذكر يروى بالباء ويروى بالفاء، وهو وعاء طلع النخل.
وأما الرّقى والتّعاويذ فقد اتفق الاجماع على جواز ذلك إذا كان بآيات من القرآن، أو إذ كانت وردت في الحديث، ويدل على صحته الأحاديث الواردة في ذلك منها حديث أبي سعيد المتقدم أن جبريل رقي النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها ما روي عن عبيد بن رفاعة الزرقي «أن أسماء بنت عميس قالت يا رسول الله إن ولد جعفر تسرع إليهم العين. أفأسترقي لهم قال نعم فإنه لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين» أخرجه التّرمذي وقال: حديث صحيح.
وعن أبي سعيد الخدري «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ ويقول أعوذ بالله من الجان، وعين الإنسان فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما، وترك ما سواهما» أخرجه التّرمذي وقال: حديث حسن غريب فهذه الأحاديث تدل على جواز الرّقية، وإنما المنهي عنه منها ما كان فيه كفر أو شرك أو ما لا يعرف معناه مما ليس بعربي لجواز أن يكون فيه كفر والله أعلم.
وأما التفسير:
فقوله: {قل أعوذ برب الفلق}، أراد بالفلق الصبح، وهو قول الأكثرين، ورواية عن ابن عباس لأن الليل ينفلق عن الصبح وسبب تخصيصه في التعوذ أن القادر على إزالة هذه الظلمة عن العالم قادر على أن يدفع عن المستعيذ ما يخافه، ويخشاه، وقيل إن طلوع الصبح كالمثال لمجيء الفرج، كما أن الإنسان ينتظر طلوع الصّباح، فكذلك الخائف يترقب مجيء النجاح، وقيل إن تخصيص الصبح بالذكر في هذا الموضع لأنه وقت دعاء المضطرين، وإجابة الملهوفين، فكأنه يقول قل أعوذ برب الوقت، الذي يفرج فيه هم المهمومين والمغمومين، وروي عن ابن عباس أن الفلق سجن في جهنم، وقيل هو واد في جهنم إذ فتح استعاذ أهل النار من حره، ووجهه أن المستعيذ قال: أعوذ برب هذا العذاب، القادر عليه من شر عذابه، وغيره وروي عن ابن عباس أيضًا أن الفلق الخلق، ووجه هذا التأويل، أن الله تعالى فلق ظلمات بحر العدم بإيجاد الأنوار، وخلق منه الخلق، فكأنه قال قل أعوذ برب جميع الممكنات، ومكون جميع المحدثات {من شر ما خلق} قيل يريد به إبليس خاصة لأنه لم يخلق الله خلقًا هو شر منه، ولأن السحر لا يتم إلا به وبأعوانه وجنوده، وقيل من شر كل ذي شر، وقيل من شر ما خلق من الجن، والإنس.
{ومن شر غاسق إذا وقب} عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر فقال يا عائشة استعيذي بالله من شر هذا، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب» أخرجه التّرمذي وقال حديث حسن صحيح، فعلى هذا الحديث المراد به القمر إذا خسف، واسود ومعنى وقب دخل في الخسوف، أو أخذ في الغيبوبة، وقيل سمي به لأنه إذا خسف اسود، وذهب ضوءه وقيل إذا وقب دخل في المحاق، وهو آخر الشهر وفي ذلك الوقت يتم السحر المورث للتمريض، وهذا مناسب لسبب نزول هذه الآية.
وقال ابن عباس: الغاسق الليل إذا وقب أي أقبل لظلمته من المشرق، وقيل سمي الليل غاسقًا لأنه أبرد من النهار، والغسق البرد وإنما أمر بالتعوذ من الليل لأن فيه تنشر الآفات، ويقل الغوث وفيه يتم السحر، وقيل الغاسق الثريا إذا سقطت، وغابت، وقيل إن الأسقام تكثر عند وقوعها، وترتفع عند طلوعها فلهذا أمر بالتعوذ من الثريا عند سقوطها {ومن شر النفاثات في العقد} يعني السواحر اللاتي ينفثن في عقد الخيط حين يرقين عليها، وقيل المراد بالنفاثات بنات لبيد بن الأعصم اللاتي سحرن النبي صلى الله عليه وسلم، والنفث النفخ مع ريق قليل، وقيل إنه النفخ فقط.
واختلفوا في جواز النّفث في الرّقى، والتّعاويذ الشّرعية المستحبة فجوزه الجمهور من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم، ويدل عليه حديث عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات» الحديث وأنكر جماعة التّفل، والنّفث في الرقى، وأجازوا النّفخ بلا ريق قال عكرمة: لا ينبغي للرّاقي أن ينفث ولا يمسح ولا يعقد، وقيل النفث في العقد إنما يكون مذمومًا إذا كان سحرًا مضرًا بالأرواح والأبدان، وإذا كان النفث لإصلاح الأرواح والأبدان وجب أن لا يكون مذمومًا، ولا مكروهًا بل هو مندوب إليه.
{ومن شر حاسد إذا حسد} الحاسد هو الذي يتمنى زوال نعمة الغير، وربما يكون مع ذلك سعي، فلذلك أمر الله تعالى بالتعوذ منه، وأراد بالحاسد هنا اليهود، فإنهم كانوا يحسدون النبي صلى الله عليه وسلم أو لبيد بن الأعصم وحده والله سبحانه، وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه. اهـ.

.قال النسفي:

سورة الفلق مختلف فيها وهي خمس آيات.
بسم الله الرحمن الرحيم
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الفلق}
أي الصبح أو الخلق أو هو واد في جهنم أوجبٌّ فيها {مِن شَرّ مَا خَلَقَ} أي النار أو الشيطان.
و(ما) موصولة والعائد محذوف، أو مصدرية ويكون الخلق بمعنى المخلوق.
وقرأ أبو حنيفة رضي الله عنه {مِن شَرّ} بالتنوين و(ما) على هذا مع الفعل بتأويل المصدر في موضع الجر بدل من {شَرُّ} أي شر خلقه أي من خلق شر، أو زائدة {وَمِن شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} الغاسق: الليل إذا اعتكر ظلامه، ووقوبه دخول ظلامه في كل شيء، وعن عائشة رضي الله عنها: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فأشار إلى القمر فقال: تعوذي بالله من شر هذا فإنه الغاسق إذا وقب، ووقوبه دخوله في الكسوف واسوداده {وَمِن شَرّ النفاثات في العقد} النفاثات: النساء أو النفوس أو الجماعات السواحر اللاتي يعقدن عقدًا في خيوط وينفثن عليها ويرقين، والنفث: النفخ مع ريق وهو دليل على بطلان قول المعتزلة في إنكار تحقق السحر وظهور أثره {وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} أي إذا ظهر حسده وعمل بمقتضاه لأنه إذا لم يظهر فلا ضرر يعود منه على حسده بل هو الضار لنفسه لاغتمامه بسرور غيره، وهو الأسف على الخير عند الغير.
والاستعاذة من شر هذه الأشياء بعد الاستعاذة من شر ما خلق إشعار بأن شر هؤلاء أشد، وختم بالحسد ليعلم أنه شرها وهو أول ذنب عصي الله به في السماء من إبليس، وفي الأرض من قابيل.
وإنما عرف بعض المستعاذ منه ونكر بعضه، لأن كل نفاثة شريرة فلذا عرفت {النفاثات} ونكر {غَاسِقٍ} لأن كل غاسق لا يكون فيه الشر إنما يكون في بعض دون بعض، وكذلك كل حاسد لا يضر، ورب حسد يكون محمودًا كالحسد في الخيرات والله أعلم. اهـ.

.قال ابن جزي:

سورة الفلق:
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق}
تقدم معنى أعوذ في التعوذ ومعنى رب اللغات والفاتحة، وفي الفلق ثلاثة أقوال: أنه الصبح ومنه فالق الإصباح قال الزمخشري: هو فعل بمعنى مفعول.
الثاني: أنه كل ما يفلقه الله كفلق الأرض عن النبات والجبال عن العيون، والسحاب عن المطر والأرحام عن الأولاد والحب والنوى وغير ذلك.
الثالث: أنه جُبٌ في جهنم. وقد رُوي هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم {مِن شَرِّ مَا خَلَقَ} هذا عموم في جميع المخلوقات وشرهم أنواع كثيرة، أعاذنا الله منها. وما هنا موصلة أو موصوفة أو مصدرية {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} فيه سبعة أقوال، الأول: أنه الليل إذا أظلم ومنه قوله تعالى: {إلى غَسَقِ اليل} [الإسراء: 78] وهذا قول الأكثرين، وذلك ظلمة الليل ينتشر عندها أهل الشر من الأنس والجن، ولذلك قال في المثل: الليل أخفى للويل.
الثاني: أنه القمر. خرَّج النسائي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى القمر فقال: يا عائشة استعيذي بالله من شر هذا، فإنه الغاسق إذا وقب» ووقوبه هذا كسوفه، لأن وقب في كلام العرب يكون بمعنى الظلمة والسواد وبمعنى الدخول فالمعنى إذا دخل في الكسوف أو إذا أظلم به.
الثالث: أنه الشمس إذا غربت والوقوب على هذا المعنى الظلمة أو الدخول. الرابع: أن الغاسق النهار إذا دخل في الليل، وهذا قريب من الذي قبله، الخامس: أن الغاسق سقوط الثريا وكانت الأسقام والطاعون تهيج عنده، وروي ن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: النجم هو الغاسق فيحتمل أن يريد الثريا السادس: قال الزمخشري: يجوز أن يراد بالغاسق الأسود من الحيات ووقبه ضربه السابع: أنه إبليس حكى ذلك السهيلي {وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد} النفث شبه النفخ دون تفل وريق قاله ابن عطية، وقال الزمخشري: هو النفخ مع ريق وهذا النفث ضرب من السحر وهو: أن ينفث علىعقد تعقد في خيط أو نحوه على اسم مسحور فيضره ذلك، وحكى ابن عطية أنه حدثه ثقة أنه رأى عند بعض الناس بصحراء المغرب خيطًا أحمر قدعقدت فيه عقد على فُصْلان وهي أولاد الإبل فمنعها بذلك من رضاع أمهاتها، فكان إذا حل عقدة جرى ذلك الفصيل إلى أمه فرضع في الحين قال الزمخشري: إن في الاستعاذة من النفاثات ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يستعاذ من مثل عملهن وهو السحر، من ائتمن في ذلك.
والثاني: أن يستعاذ من خداعهن للناس وفتنتهن والثالث: أن يستعاذ مما يصيب من الشر عند نفثهن. والنفاثات بناء مبالغة والموصوف محذوف تقديره: النساء النفاثات، والجماعة النفاثات، أو النفوس النفاثات، والأول أصح لأنه روي أنه إشارة إلى البنات لبيد من الأعصم اليهودي، وكنَّ ساحرات سحرن هن وأبوهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقدن له إحدى عشر عقدة، فأنزل الله المعوذتين إحدى عشر آية بعدد العقد وشفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل: لم عرّف النفاثات بالألف واللام ونكر ما قبله وهو غاسق وما بعده وهو حاسد مع أن الجميع مستعاذ منه؟
فالجواب: أنه عرف النفاثات ليفيد العموم لأنه كل نفاثة شريرة بخلاف الغاسق والحاسد فإن شرهما في بعض دون بعض.
{وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} الحسد خُلُق مذموم طبعًا وشرعًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب».
وقال بعض العلماء: الحسد أول معصية عُصِيَ الله بها في السماء والأرض أما في السماء فحسد إبليس لآدم وأما في الأرض فقتل قابيل لأخيه هابيل بسبب الحسد، ثم إن الحسد على درجات. الأولى: أن يحب الإنسان زوال النعمة عن أخيه المسلم وإن كانت لا تنتقل إليه بل يكره إنعام الله على غيره ويتألم به. الثانية: أن يحب زوال تلك النعمة لرغبته فيها وجاء انتقالها إليه. الثالثة: أن يتمنى لنفسه مثل تلك النعمة من غير أن يحب زوالها عن غيره وهذا جائز وليس بحسد وإنما هو غبطة. والحاسد يضر نفسه ثلاث مضرات:
أحدها: اكتساب الذنوب لأن الحسد حرام. الثانية: سوء الأدب مع الله تعالى، فإن حقيقة الحسد كراهية إنعام الله على عبده واعتراض على الله في فعله. الثالثة: تألم قلبه من كثرة همه وغمه. فنرغب إلى الله أن يجعلنا محسودين لا حاسدين، فإن المحسود في نعمة والحاسد في كرب ونقمة، والله در القائل:
وإني لأرحم حسَّادي لفرط ما ** ضمَّت صدورهمُ من الأوغار

نظروا صنيع الله بي فعيونهم ** في جنة وقلوبهم في نار

وقال آخر:
إن يحسدوني فإني غيرُ لائمهم ** قبلي من الناس أهلَ الفضل قد حسدوا

فدام لي ولهم ما بي وما بِهمُ ** وماتَ أكثرنا غيضًا بما يجدُ

ثم إن الحسود لا تزال عداوته ولا تنفع مداراته وهو ظالم يشاكي كأنه مظلوم، ولقد صدق القائل:
كل العداوة قد ترجى إزالتها ** إلا عداوة من عاداك من حسد

وقال حكيم الشعراء:
وأظلم خلق الله من بات حاسدًا ** لمن بات في نعمائه يتقلب

قال ابن عطية: قال بعض الحذاق: هذه السورة خمس آيات وهي مراد الناس بقولهم للحاسد الذي يخاف منه العين: الخمسة على عينك.
فإن قيل: إذا وقب، وإذا حسد فقيد بإذا التي تقتضي تخصيص بعض الأوقات؟
فالجواب: أن شر الحاسد ومضرته إنما تقع إذا أمضى حسده، فحيئنذ يضر بقوله أو بفعله أو بإصابته بالعين، فإن عين الحسود قاتلة. وأما إذا لم يمض حسده ولم يتصرف بمقتضاه فشره ضعيف ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاث لا ينجو منهم أحد: الحسد والظن والطيرة فمخرجه من الحسد أن لا يبقى ومخرجه من الظن أن لا يحقق ومخرجه من الطيرة ألا يرجع، فلهذا خصه بقوله إذا وقب.
فإن قيل: إن قوله من شر ما خلق عموم يدخل تحته كل ما ذكر بعده فلأي شيء ذكر ما بعده؟
فالجواب: أن هذا من التجريد للاعتناء بالمذكور بعد العموم، ولقد تأكد ما ذكر في هذه السورة بعد العموم بسبب السحر الذي سحر اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم وشدة حسدهم له. اهـ.